تونس-“القدس العربي”: تقع مدينة بني خلاد، زاوية الجديدي ومنزل بوزلفة، في الشمال الشرقي للبلاد التونسية وتحديدا في شبه جزيرة الوطن القبلي التي يحيط بها البحر من ثلاث جهات، وهي المنطقة التي توفر إنتاج البلاد من البرتقال وسائر الحمضيات وكذا حاجيات بلدان أخرى يتم تصدير هذا المنتوج الفلاحي لها. فهي أرض البرتقال بامتياز، العطرة بروائح أزهار هذه الشجرة المباركة الزكية التي تطالعك بساتينها أينما وليت وجهك في هذه المدينة ومحيطها من القرى الأندلسية المتناثرة كحبات اللؤلؤ في هذا الركن الجميل من أرض تونس الخضراء الخصبة والمعطاء.
وتتميز جهة الوطن القبلي بمناخها المتوسطي المعتدل وتساقطاتها الهامة من الأمطار ما جعلها إلى جانب وجود النشاطين السياحي والصناعي الهامين بها، فلاحية بامتياز ويجلب منتوجها العملة الصعبة التي يحتاجها اقتصاد البلاد. وحتى في فصل الصيف تتميز هذه المنطقة بدرجات حرارة منخفضة نوعا ما بالمقارنة مع العاصمة غير البعيدة وكذا مدينة الوسط والساحل التونسيين ما يجعلها وجهة محببة للتونسيين والأجانب.
تاريخ عريق
لهذه الأرض التي أقيمت عليها مدينة بني خلاد زاوية الجديدي ومنزل بوزلفة تاريخها الضارب في القدم، إذ تعاقبت عليه حضارات شتى وأقوام عديدة. فقد أصبحت المدن الفينيقية والقرى الأمازيغية في المنطقة ومنذ القرن الثامن قبل ميلاد المسيح جزءا من إمبراطورية قرطاج التي دمجت الجميع في حضارة بونية، أو بونيقية كما يسميها البعض، واحدة، وتحدث سكانها لغة بونية واحدة هي مزيج من الفينيقية والأمازيغية.
وساهم الرومان الذين بنوا إمبراطوريتهم على أنقاض قرطاج في تطوير المدينة في جهة الوطن القبلي التونسي وكذا الزراعة مستفيدين من مدونة عالم الفلاحة والجينات، ماجون القرطاجي التي ترجمت من اللغة البونية التونسية القرطاجية إلى الإغريقية واللاتينية. وقد أتى ذكر زراعة البرتقال وفوائد هذه الشجرة في المدونة التي استمر العمل بها إلى أزمنة قريبة بعد ان ازدادت أهميتها مع حركة الترجمة التي طالت كتب الاغريق خاصة وأن لغة قرطاج قد تراجع استعمالها مع قدوم العرب حاملين راية الإسلام ولغته أي العربية التي باتت لغة البلاد الرسمية منذ القرن الأول للهجرة وأصبحت البونية لسانا ميتا.
كما تطور العمران والفلاحة في الوطن القبلي في العهدين الحفصي والعثماني اللذين شهدا أيضا هجرات هامة للأندلسيين والموريسكيين الذين جاؤوا على دفعات بعد أن سقطت مدنهم في يد الاسبان الواحدة تلو الأخرى وسعى بعض سلاطين بني حفص إلى توطينهم في تونس لإعمار البلاد التي شهدت أوبئة تراجع معها عدد السكان، فأسسوا مدنا وقرى عديدة منها ما هو في أرض البرتقال، وطوروا الفلاحة مستفيدين من تقنيات عصرية استخدمت في الأندلس التي كانت أكثر تطورا.
ومع قدوم الاستعمار الفرنسي في البلاد تهافت المعمرون الفرنسيون على نهب الأراضي الخصبة للتونسيين ومنها أرض البرتقال التي ما زالت آثار بناء الفرنسيين في ضيعاتها الفلاحية بادية للعيان. ولم تعد هذه الأراضي للتونسيين إلا بموجب قانون تأميم الأراضي الزراعية في 12 أيار/مايو 1964 الذي وقعه بورقيبة على المنضدة التي وقع عليها ملك البلاد في التاريخ نفسه من سنة 1881 تلك المعاهدة التي استعمرت بموجبها فرنسا البلاد التونسية وأسلحة جنود الجنرال الفرنسي بريار مسلطة عليه.
لقد شاركت الجهة مشاركة فاعلة في معركة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي وقدمت الشهداء من أبنائها والأسماء عديدة في هذا الإطار، كما كان لها شأن في مرحلة بناء دولة الاستقلال سواء من خلال فلاحيها أو رجال أعمالها أو نشطاء المجتمع المدني. وما زالت إلى اليوم تقدم إلى الوطن في شتى المجالات ومازال أبناؤها يبدعون ويحتلون أبرز المواقع في شتى المجالات مستفيدين من ارتفاع نسبة التمدرس وظروف العيش الملائمة وربما من الطبيعة الخلابة والآسرة أينما وليت وجهك.
وتتميز أرض البرتقال بموروث صوفي هام على غرار كامل المنطقة المغاربية التي كان فيها للتصوف أو الإسلام الشعبي الطرقي دور بارز في تماسك المجتمع وفي مقاومة الغزاة والمستعمرين من الاسبان والفرنسيين والايطاليين وحتى البرتغاليين في عصر ما بالنسبة لأقصى بلاد المغرب. ومن أشهر رواد التصوف في المنطقة الولي الصالح سيدي علي الجديدي الذي سميت مدينة زاوية الجديدي على اسمه ففيها تقع زاويته ويروى أنه جاء من الساقية الحمراء (الصحراء الغربية) ليستقر في البلاد التونسية وتحديدا في أرض البرتقال السعيد.
بين تونس وفلسطين
يقول الكاتب والناشط في المجتمع المدني التونسي محمود الجديدي لـ”القدس العربي” عن أرضه المعطاء باعتباره من أبناء تلك الربوع: “لما كتب غسان كنفاني أرض البرتقال الحزين، وكان يتحدث عن فلسطين فكرت أن أكتب عن أرض البرتقال السعيد وفي ذهني ووجداني ثلاث برتقالات، الأولى فيها نشأت ومنها أجدادي المؤسسين، والثانية فيها درست ودرست ومنها تزوجت، والثالثة فيها تحصلت على البكلوريا ومنها والدتي العزيزة. برتقالتي الأولى هي مدينة زاوية الجديدي وسميت كذلك نسبة إلى وليها الصالح ومؤسسها سيدي علي الجديدي، وبرتقالتي الثانية هي مدينة بني خلاد الجميلة وتسمى أيضا تاج الدخلة، أما برتقالتي الثالثة فهي منزل بوزلفة وتسمى أيضا عاصمة البرتقال رغم جودة شجر الزيتون فيها والمتوفر بكميات كبيرة تماما كما في أرض فلسطين”.
ويضيف قائلا: “سيكون الأمر عسيرا بالنسبة لي حقا إذا ما تحدثت عن هذه البرتقالات الثلاث كل واحدة على حدة، سأتعسف على أساليب الإنشاء المدرسية الرسمية المملة وسأسميها جميعا أرض البرتقال السعيد وأستمر في الحديث عنها مجتمعة وبكل حرية. سأحدثكم عن موقع استراتيجي هام تجتمع فيه عناصر طبيعية من النادر أن تجتمع في مكان واحد ثم أحدثكم عن مجتمع مدني نشيط تدرب على مفاهيم المساءلة والشفافية”.
ويواصل بالقول: “تقع هذه الأرض الفريدة في الوطن القبلي من الجمهورية التونسية من ولاية نابل عاصمة السياحة والفلاحة حيث البحر والأراضي الخصبة والمناطق الصناعية والجبال الآهلة والآمنة، يحيط البحر بأرضنا من ثلاث جوانب والجبال الخضراء من كل الجهات. لن تحتاج إلا إلى ساعة من الزمن لتصل إلى ميناء حلق الوادي وإلى مثلها لكي تصل إلى مطار تونس قرطاج الدولي. خمسون دقيقة تكفيك لتكون وسط العاصمة التونسية وثلاثون دقيقة فقط تفصل أرضنا عن مدينة الحمامات السياحية الشهيرة، وإن كنت تريد زيارتنا أو الإقامة بيننا فأنت بين أهلك مكرما معززا، وإن كنت تود الاستثمار هنا فكل شروط نجاح مشاريعك متوفرة في أرض البرتقال السعيد. قرابة مئة ألف نسمة تسكن أرضنا مما يجعلها سوقا استهلاكية محلية هامة إلى جانب اليد العاملة المتخصصة المتوفرة والكفاءات العالية، استثمر في الفلاحة حيث إنتاج البرتقال الغزير أو في الصناعة حيث المنطقة الصناعية الجديدة في سيدي التومي.
ويرى محدثنا أن أرض البرتقال السعيد ورغم أنه يطيب فيها العيش، إلا أنه وفي خريف 2018 وعلى غير عادة مناخها المعتدل، قست عليها الطبيعة حيث شهدت فيضانات لم تعرف لها من قبل مثيلا. واعتبرت الدولة، حسب الحديدي، المنطقة منكوبة خاصة بعد أن حققت مدينتا زاوية الجديدي وبني خلاد رقما قياسيا عالميا في هطول الأمطار تجاوزت الثلاث مئة مليمتر خلال ثلاث ساعات فقط قضت على الأخضر واليابس. والأهم بالنسبة للكاتب هو ما عرفته المنطقة بعد الكارثة من مد تضامني رائع محليا ووطنيا ساعد إلى جانب ديناميكية الأهالي، على إعادة إعمارها من جديد في ظرف وجيز وكأن شيئا لم يكن.
مواطنون لا رعايا
وتتميز أرض البرتقال بوجود نشاط لافت لمنظمات المجتمع المدني، ففيها شباب حي ويافع ونشيط لا ينقطع عن البذل لأجل منطقته جلب إليه الأنظار محليا وخارجيا وفي هذا الإطار يقول محمود الجديدي: “إن تنوع الأفكار والأنشطة وتعدد الثقافات التي تميز سكان أرضنا إضافة إلى قربها من البحر ومن المناطق السياحية ومن العاصمة، كلها معطيات جعلت منها أرضية خصبة لنمو الوعي المواطني. وقد اشتغل على ذلك مركز البحوث والدراسات البديلة كأحد مكونات نسيج المجتمع المدني في المنطقة. لقد عمل المركز على نشر ثقافة المساءلة والشفافية وحق النفاذ إلى المعلومة وتدريب المواطنين وعلى توظيف هذه الخبرات بهدف ممارسة وتفعيل الدور الأساسي للمجتمع المدني في مراقبة مؤسسات الدولة عامة ومتابعة أطوار الصفقات العمومية خاصة.
يمكنك بسهولة أن ترصد وأن تلحظ ملامح هذه الديناميكية العالية إن صح التعبير. هنا لا تمر مشاريع الدولة دون متابعة أو مساءلة من قبل المواطنين في إطار تشاركية فرضتها مؤسسات المجتمع المدني الناشطة في أرضنا وشجعت عليها القوانين. لدينا نسيج جمعياتي متنوع وناشط، فإلى جانب مركز البحوث والدراسات البديلة نذكر جمعية “أميرال” لمسرح الطفل وجمعية “خلادي ومتطوع لبلادي” و “كرامة وأمل” الخيرية و “نيارا” للفن التشكيلي و “الأسرة الآمنة” ومنظمات عديدة يصعب حصرها.
في ربيع 2016 تشرفت مدينتا بزيارة أصدقاء من فلسطين بدعوة من مركز البحوث والدراسات البديلة بمناسبة إقامة مهرجان داموس في معتمدية منزل بوزلفة، وقد توجت الزيارة بصعود المجموعة المشاركة أعلى قمة جبل سيدي عبد الرحمان حيث عين المياه العذبة وتم زرع العلمين التونسي والفلسطيني هناك وقد قامت إحدى الفضائيات الفلسطينية بتغطية الحدث. ومن الضروري الحديث أيضا عن الأنشطة الرياضة، فإن كنت من هواة رياضة ألعاب القوى أو كرة اليد فستجد غايتك في مدينة زاوية الجديدي حيث تتحقق النتائج الباهرة من قبل الشباب في هاتين الرياضتين رغم محدودية الإمكانيات، أما إن كنت من هواة كرة القدم ففي بني خلاد يوجد فريق هو الأكثر تواجدا في صفوف فرق النخبة التونسية من بين جميع فرق جهة نابل وهو النجم الرياضي الخلادي.
مقال نشر بجريدة القدس العربية بلندن تحرير الصحفية اللبنانية روعة القاسم و الأستاذ محمود الجديدي